في كل عيد ميلاد، تقتضي تقاليد العائلة أن أسافر إلى الريف للاحتفال بالمناسبة. وأحد الأمور التي أعشقها في تلك الرحلات الطويلة هو الاستمتاع بالمشاهد الطبيعية على طول الطريق. ومحطتي المفضلة هي وادي الصدع العظيم. فالمناظر الطبيعية للصدع الواسع الممتد لآلاف الكيلومترات في كلا الاتجاهين مذهلة. ومنظر الأفق عند شروق الشمس لا يقل روعة عن وصفه بالمهيب. في هذه اللحظات بالذات، تستيقظ حواسي على الجمال الذي يحيط بنا؛ العطر المنعش الذي تفوح به الأزهار الجميلة التي لا تعد ولا تحصى، والطيور المغردة التي تصدر أصواتًا شجية، والأشجار الشاهقة ذات الأغصان البارزة بشكل واضح فوق سلسلة الجبال الخلابة، ودفء أشعة الشمس التي تداعب بشرتي.
حين أتأمل في هذه المشاهد، أشعر بالدهشة أمام عظمة مصمم الكون. فكل لوحة أو رسم يعكس طبيعة وشخصية رسامها. وبالنظر إلى روعة الخلق، يستحيل إنكار أن الله، مصمم هذا الكون، هو التجسيد المطلق للجمال
من بين كل ما خلقه، اختار الله أن يخلق الإنسان، ذكرًا وأنثى، على صورته. إن الحمض النووي لله مطبوع في جوهر كل إنسان. عندما خلق الله آدم، أعطاه تفويضًا للعمل وحراثة الأرض. وهذا يعني أن الله أراد من الإنسان أن يشترك معه في تطوير ما خلقه. وقد فعل ذلك من خلال تمكين الإنسان بمنحه المهارة والمعرفة التكنولوجية. وبالتالي، أصبح الإنسان قادرًا الآن على شق الطرق وزراعة الكروم وتأليف الموسيقى وإبداع الفن وتصميم المباني وتصنيع الملابس بطريقة تعكس الطبيعة الممتازة لله. وعلى حد تعبير دارو ميلر، قال الله للإنسان: “خذ ما أعطيتك واخلق به شيئًا جميلاً”
المسيحية لا تعني الرداءة
قبل بضع سنوات، أثنت جارتي على أناقة ملابسي، لكنها بدت مرتبكة بعض الشيء عندما رأت الكتاب المقدس في يدي (كنت قد عدت للتو من الكنيسة). سألتني: ‘هل أنت مسيحية؟’ فأجبتها بنعم. فقالت بدهشة: ‘أنت ترتدين ملابس أنيقة للغاية مقارنة بالمسيحيين. المسيحيون عمومًا لا يهتمون بالجمال، خاصة عندما يتعلق الأمر بالملابس. عادة ما أتعرف عليهم من خلال فساتينهم الطويلة غير الجذابة أو بدلاتهم الواسعة التي تنتمي إلى عقود مضت. كل ما يهمهم هو الذهاب إلى الجنة’. أدهشني كلامها، لكنه في الوقت ذاته أثار فضولي.
كلما تأملتُ أكثر فيما قالته، أدركتُ كم كانت كلماتها صادقة. كانت لدي عقلية مماثلة قبل أن أصبح مسيحيًا. عندما كنت أكبر، كان كل ما يتعلق بالكنيسة مملًا وغير مثير. كان الناس يرتدون ملابس أنيقة لحفلات الزفاف أو مقابلات العمل لكنهم يذهبون إلى الكنيسة مرتدين أحذية رياضية أو سترات بحجة أن “الله لا يهتم بمظهرنا الخارجي”، فقط لأننا مخلَّصين. كان كل تركيزنا على ضمان وصولنا إلى الجنة، وأصبح الخلاص عذرًا لغياب التميز. كانت المجموعات الشبابية التي تزور مدرستي الثانوية لتقديم الترانيم تطلب منا ألا نركز على أصواتهم، لأنها لم تكن الأفضل، بل أن نستمع فقط إلى الرسالة التي تحملها أغانيهم. لم تكن الأفلام المسيحية ممتعة، إما بسبب ضعف جودة الإنتاج أو بساطة الحبكة. لم يكن هناك أي انعكاس لجمال الله الباهر وعظمته في كنيسته. لذا، لم يكن من المستغرب أن يبدأ الناس في ربط المسيحية بالمستوى المتواضع والافتقار إلى التميز.
غالبًا ما تفسد صناعة الأزياء مفهوم الجمال
من ناحية أخرى، أدرك العالم جيدًا قوة الجمال، لكنه في معظم الحالات أفسده. كل ما خلقه الله كان لغرض تمجيده فقط. كان الجمال مصممًا ليعكس أسمى معاني الخير، والحق، والاتزان، والاحتشام، والنقاء.
كان حلمي الأكبر في طفولتي أن أصبح عارضة أزياء. كنتُ مفتونة بالبريق، أمشي في أرجاء المنزل بحذاء أمي ذي الكعب العالي متخيلة نفسي أليك ويك. وعندما تحقق حلمي بعد حوالي عقدين من الزمان، لم تكن صناعة الأزياء كما توقعتها. في ذهني، كانت الموضة تعني السير على منصات العرض بفساتين المصممين الفاخرة، والسفر حول العالم، وجني الكثير من المال. لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا.
غالبًا ما تختزل صناعة الأزياء جمال الإنسان إلى مجرد سلعة
ذات يوم، تلقيتُ اتصالًا من وكيلي يحمل لي خبرًا رائعًا: أحد أشهر المصورين الفوتوغرافيين في بلجيكا أراد العمل معي على مشروع جديد. شعرتُ بالحماس الشديد! كانت هذه فرصة العمر؛ لأن هذا المصور عمل مع العديد من العارضات المشهورات في جميع أنحاء العالم. لكن سرعان ما تحطمت آمالي عندما اكتشفت أن المطلوب مني هو التصوير عارية. رفضتُ دون تردد. ما صدمني حقًا هو أن لهذا المصور موقعًا إلكترونيًا يعرض مئات الصور لعارضات عاريات تحت مسمى الفن. تساءلتُ حينها: هل الملايين من المشتركات في هذا الموقع يقدرن حقًا ما يُطلق عليه ‘فن’، أم أنهن ببساطة يبحثن عن إشباع شهواتهن الجنسية؟ لا شك عندي في أن الإجابة هي الخيار الثاني. لقد تحولت أجساد العارضات إلى مجرد سلع تُباع، في صورة أخرى من صور استغلال العالم لروعة خلق الله، وتحويلها إلى أداة للربح الفاسد.
يمكن للمسيحيين أن يكونوا نورًا في صناعة الأزياء
تشتهر صناعة الأزياء بالسطحية، فهي تروّج لتشييء المرأة وتفرض على العارضات معايير جمال مستحيلة، مما يجعلهن عرضة للإساءة والاستغلال. كانت مسيرتي المهنية في عرض الأزياء قصيرة الأجل لأنني وجدت نفسي أرفض عروض العمل. وأكثر ما كان يثير استغرابي هو أن هذه الصناعة، التي يُفترض أن تحتفي بجمال المرأة، كانت في الواقع تُهينها وتستغلها. بدلًا من تكريمها، جعلتها مجرد سلعة. لذلك، من الصعب جدًا على المسيحي أن ينجح كعارض أزياء في هذه الصناعة، لأنها تروّج لثلاثة من أخطر الفخاخ التي حذرنا منها الكتاب المقدس: شهوة العيون، وشهوة الجسد، وَتَعَظُّم ٱلْمَعِيشَة.
فهل يجب أن نتخلى عن هذه الصناعة؟ بالتأكيد لا! فنحن مدعوون لنكون نورًا في العالم. لقد منح الله كل واحد منا مجموعة من المهارات للتأثير على مجال معين من النفوذ. وبدلًا من الانسحاب، علينا تغيير الرواية السائدة. فالمسيحي مدعو لأن يكون مختلفًا عن الثقافة السائدة. وإليكم مثالاً على ذلك: سلسلة “أسبوع الموضة المحتشمة” التي أسستها شركة “تِّينْكْ فايْشْنْ” بقيادة اثنين من رواد الأعمال. فرانك سويرس وأوزليم شاهين. هذه السلسلة، التي تُعد منصة عالمية للأزياء المحتشمة، أُقيمت بالفعل في لندن وإسطنبول وأمستردام ودبي وجاكرتا ومؤخراً في ميامي. الهدف هو إظهار أن النساء من مختلف الخلفيات و الأعمار والأديان والأحجام يمكنهن أن يكن أنيقات وعصريات مع الحفاظ على الحياء في نفس الوقت. قد تكون هذه المبادرة بمثابة قطرة في المحيط ولكن لا ينبغي لنا أبدًا أن نقلل من قوة البذرة لأن هناك أملًا في جني حصاد وفير في الوقت المناسب.
الكتاب المقدس يتحدث عن الموضة
ما هو رأي الله في الموضة؟ يخبرنا الكتاب المقدس أن الأرض ملك للرب وكل ما فيها. وهذا يشمل الأقمشة والمجوهرات والفنون والعطور وحتى العارضات على منصات الأزياء. لقد صنع كل شيء وأنهى عمله بالقول ‘إنه حسن’. لذا يجب أن يعكس كل شيء هذا الجمال والكمال. في رأيي، يعكس سفر الخروج 28 بوضوح مهارات الله الفريدة في تصميم الأزياء. ففي الآية الثانية، يأمر الله موسى بصنع ثياب ‘للمجد والبهاء’، مستخدمًا الذهب، الخيوط الزرقاء والقرمزية، الكتان الفاخر، والعقيق، والتوباز، والياقوت، والزمرد، والجمشت، والجزع، واليشب. وكان ينبغي أن تُصنع هذه الثياب على يد ‘حرفيين موهوبين’ مملوئين بروح الحكمة. ألبس شاول بنات إسرائيل زينة قرمزية وحلي من ذهب (2 صموئيل 1: 24). لقد تعجبت ملكة سبأ من الأسلوب الرائع والمميز الذي زين به سليمان مملكته ورعيته. كما أن المرأة المجتهدة الفاضلة في سفر الأمثال 31 ‘كسَت بيتها بأثواب قرمزية’. من الواضح أن للأزياء مكانة في قلب الله.
أين يوجد الجمال الحقيقي؟
لكن الأهم من ذلك هو الجمال الداخلي. في رسالته الأولى إلى تيموثاوس، يحث بولس النساء على أن ‘يزينَّ أنفسهن بلباس محتشم مع حياء وتعقل…’ ويشجع بطرس النساء على أن ‘يكن زينتهن إنسان القلب الخفي في زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن’. كلما فكرت في الجمال الداخلي، يتبادر إلى ذهني غلاطية 5: 22: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلَامٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلَاحٌ، إِيمَانٌ، وضبط النفس. هذه الصفات تعكس قلب الرب ذاته، فهو الكرمة ونحن الأغصان، وبدونه لا يمكننا أن نأتي بثمر كهذا. القرب من الله هو المفتاح لامتلاك الجمال الداخلي لأننا لا نستطيع أن نحدق في جمال الله دون أن نتغير. وكلما أمضينا وقتًا أطول معه، أصبحنا أكثر شبهاً به. قد يبدو الجمال الجسدي جيدًا، لكن الجمال الداخلي يبقى في قلوب الآخرين مدى الحياة. تشهد الآية 30 من الإصحاح 31 من سفر الأمثال على هذا: “اَلْحُسْنُ غِشٌّ وَٱلْجَمَالُ بَاطِلٌ…” وتضيف الآية على أن أن المرأة الفاضلة “ٱلْمُتَّقِيَةُ ٱلرَّبَّ فَهِيَ تُمْدَحُ”.
يجب أن نعكس كمال الله بإظهار جماله في أعمالنا وفي الطريقة التي نقدم بها أنفسنا. الله يهتم حقًا بالتفاصيل. لكن ما يهم أكثر في هذه الحياة وما بعدها، وما أقدّره فوق كل شيء هو أن أكون مثله. لا يوجد جمال يلمع أكثر إشراقًا من ذلك الذي يفيض من قلب الله نفسه!